كل هذا الحب: بقلم رعد الامارة

 قصة (كل هذا الحب) الجزء الأخير 


مضت عدة أشهر منذ أن تم قبولي في احدى الجامعات العراقية، العاصمة بغداد قامت بواجبها، فجذبت معظم أبناء المحافظات الأخرى، كان أغلبنا مبهورا بما يرى ، الأنوار وبهرجة الليل كان أشد مايجذبنا، كنا نصطحب كتبنا ومحاضراتنا ونحن نسير صوب الحدائق ذات الأشجار الباسقة لنلوذ تحت مساطبها الوفيرة، لكن هذا لم يكن يمنعنا من اختلاس النظر للفتيات بعمر الورود ذوات الشعر المنسدل، والذي يشابه بلونه خيوط الشمس الذهبية، وجدت نفسي أميل للشقراوات، ربما بسبب البنت التي سلبت عقلي هناك في مبنى الكلية، والتي أتخذت من أحد مقاعد المقدمة مكاناً لها، لطالما اصطادتها عيني الخجولتين وهي ترمقني وتبتسم، أما أنا فغاية ماكنت أفعله أن يحمر وجهي مثل العذارى. لم يكن وضع أهلي المادي جيداً، بالكاد كان مصروفي الشهري يكفيني، لا أعرف من أين كانت تأتي فاتن بالمال! لطالما حاولت دس المال في جيبي أثناء نزولي في أيام الاجازة، كنت أرفض رفضاً قاطعاً، وكان وجهي يحمرُّ وأنا أفعل ذلك، أما هي فكانت تخفض رأسها ثم ترفعه بغتة، فألمح عينيها المضحكتين الدامعتين ، لاتلبث أن تستدير مهرولة وهي لاتلوي على شيء! كنت بين حين وآخر أتعرض للتوبيخ من أمي بسبب فاتن، تقول :

_سيعاقبك الله بسبب هذه البنت المسكينة، دوماً تصرفها بدمعة في عينيها. أما شقيقاتي الثلاث، فقد اضحكني منظرهن، وهن يتبادلن الأدوار في وصف محاسن فاتن وكأني لا أعرفها!. هكذا انقضى فصل الشتاء ولحقته باقي الفصول، بمرور الوقت نمى لي شارب قالت عنه شقيقتي الكبرى بأنه من أجمل مارأت، كانت أمي في أثناء ذلك تخفي دموعها الكبيرة خلف شالها الأسود، أما فاتن فكانت كالعادة ماهرة في إخفاء نفسها عني، تارة تلوذ بكتف أختي الصغرى وتارة بكتف أمي، التي كان هذا الوضع يصيبها بنوبة من الضحك ينتهي عادة بدموع من المرأتين. بعد نهاية الفصل الدراسي، وعند حلول فصل الصيف عرض علي خالي الأكبر مساعدته في صيد السمك، كان يعمل معه ثلاثة أولاد غيري، وجدت العمل ممتعاً، حتى أن الأجر كان طيباً، عادت فاتن للأهتمام أكثر بثيابي، واغراضي الأخرى التي كنت أجدها وقد رتبت وازيل عنها كل ذرات الغبار، لم تكن تتكلم كثيراً، فقط تتنهد، لكنها واصلت إخفاء رأسها خلف ظهر أمي تارة او واحدة من شقيقاتي تارة أخرى ، يحدث هذا حين أطلق واحدة من النكات التي يتدوالها خالي والأولاد معه. لم يتوقف النمو عند شاربي فحسب، ففاتن أيضا نما جسدها بشكل ملفت للنظر، أصبح صدرها بارزاً، حين كان نظري يقع عليها بين حين وآخر وهي منحنية مثلاً، او  في سبيلها لتعليق واحد من ثيابي بمسمار الحائط، فإن وجهي يحمرُّ بسرعة وتتوتر كل أعضاء جسدي! لكن حين تلتقي أبصارنا، اشيح بنظري بسرعة، لا أعرف، لكن الأمر لم يكن له علاقة بدمامة وجهها! وهذا الشيء أربكني فعلاً. بدأت امي تكثر من الحديث عن فاتن ومهاراتها،  ولم تكتفي بالتلميح والاشارات، تقول :

_لن تمضي سنة، حتى تصبح فاتن بنت ثرية، أنها تحسن التصرف بالمال الذي منحته لها جدتها، أتعرف؟-تدسُّ أمي سبابتها في ظهري - هذه البنت التي لاتروق لك، يحوم حولها أجمل رجال القرية، غبي، ابني واعرفك. هذه كانت أول وآخر مرة تحدثت فيها أمي لي بهذه الطريقة، حتى إنها أصبحت اكثر حناناً ورقة، عرفت فيما بعد أن فاتن كانت قد سمعت حديثنا بالصدفة هي وشقيقتي الصغرى، أخبرتني أختي هذه، ان فاتن قبلت يدي أمي مراراً وتكراراً، حتى لاتعود للحديث معك بهذه الطريقة وتوبخك. كان خالي أيضا قد بدأ يتحدث هو الآخر عن بنت الجيران فاتن، يفعل ذلك وهو يلقي بشباك الصيد ثم وهو يجذبها، يقول :

_عجيبة هذه البنت، لايظهر عليها أنها مهتمة، لقد ابتاعت ثلاثة من دكاكين سوق القرية الكبير، المال يفور بين يديها، حتى أنها تبيع بيض الدجاج الخاص بدارهم، تصور باعتني أنا دجاجة كبيرة من دجاجات البيت، لكنها اهدتني أخرى مجاناً . قال خالي هذا وغمزني بعينه الرمادية. لم تتغير معاملتي لفاتن، لكني أصبحت اكثر رقة، ربما بسبب موقفها من أمي، اخبرتها بحضور شقيقتي بضرورة اصطحاب كراريسها معها في المرة القادمة، البنت فاتن كاد رأسها يرتطم بعتبة الباب وهي تسمع ذلك، حتى أنها قبلت أمي من فمها في باحة الدار وهي تجري صوب بيتهم، قالت أمي لي :

_عجيب امركْ، متغير مثل الطقس، لكن حسناً فعلتْ،البنت يتيمة. على غير العادة اقتحم خالي غرفتي، حدث هذا في وقت مبكر من صباح يوم بدا جميلاً، قال وهو يجرني من ذراعي ويبعدني عن الفراش :

_هذا الدار تركه أبوك أمانة في عنقك، واعني بالدار يا عزيزي أمك وشقيقاتك، ليس لكم من مورد ثابت، وجامعتك تحتاج مصاريف كثيرة، وأمك أنهكها التعب، طيب عليك أن تتزوج!. القى خالي بكلماته هذه في وجهي ثم أشعل سيجارة، أخذ يحدق في وجهي، لم انبس بحرف، حاولت أن أضحك أو أبتسم لكن ملامحي ظلت جامدة، لم اسأله من سعيدة الحظ ولا كيف سيتم الأمر، لكني أدركت أن أمي العزيزة هي صاحبة الفكرة هذه. تركني خالي في حيرتي، أخذت أمي تحوم حولي، أحضرت لي الفطور، ثم صبت لي مزيداً من الشاي، أما فاتن فلم يظهر لها أثر طوال هذا اليوم مما جعلني أهز رأسي وقد خيل لي أني فهمت الأمر اخيراً. فيما مضى من الأيام لم يحدث شيء جديد، لكن الجو بدا متوتراً، أما دارنا فقد خيم عليها صمت مطبق قطعه خالي بحضوره للمرة الثانية، هذه المرة تحدثنا معاً، رجل لرجل، اتخذت قراراً وافق عليه خالي بعد أن تردد قليلاً، اذكر أنه قال :

_سأدعمك، وليكن الله معنا. أخيراً أنه يوم زفافي، وحتى أكون صريحاً معكم فقد فكرت في الأمر، ووجدت ان كل ماحيك من مؤامرات حول زواجي كان يصب في مصلحتي، نعم تزوجت شقيقة فاتن! اوه حتماً سيصدمكم هذا الخبر، لكن لا، العجيب فيما جرى أن فاتن هي من سعى لتزويجي من شقيقتها، لقد بذلت المستحيل وقبلت الأيادي لنجاح مسعاها. فاتن لم تتغير، لكنها أصبحت أغنى امرأة في الناحية، ومازالت على عنادها فهي لاتسمح لزوجتي بغسل وكي ثيابي، إنها تقوم بالأمر بنفسها، لكنها لم تعد تجلس معنا كثيراً، تقول من الواجب ان تشرف بنفسها على تجارتها النامية، وحين تجمعنا الصدف والقي نكتة او طرفة ما، فأنها هذه المرة أيضا تخبئ رأسها، لكن خلف ظهر زوجتي!. (تمت )


بقلم /رعد الإمارة /العراق /بغداد


تعليقات

المشاركات الشائعة