تلك الرائحة: بقلم محمد البوركي
تلك الرائحة ( قصة قصيرة )
أوصدوا الأبواب و النوافذ وأغلقوا الصنابير و الأزرار؛ رصوا الأمتعة في صندوق السيارة، و قبل الانطلاق في اتجاه القرية مسقط رأسه، التفت الأستاذ عثمان إلى زوجته
و أبنائه الثلاثة صائحا بلهجة صارمة :
هل أنتم متيقنون من إحكام إقفال كل شيء في الشقة ؟
أجابوا بصوت واثق: أجل ، نفذنا أمرك ، بكل تأكيد .
تزامن عيد الأضحى مع حلول العطلة الربيعية ، تضاعفت الفرحة و عم الانشراح أسرة. بعد عودتهم من المصلى و أداء صلاة العيد ، خلعوا ثيابهم القشيبة ، واتجهوا إلى سطح العمارة حيث ربط الكبش ، فكوا وثاقه ، قاموا بنحره ، وسلخه و تقطيعه إلى كتل صغيرة ، و وضعها في أكياس بلاستيكية و إيداعها مجمد الثلاجة الكبيرة .
انطلقت السيارة ، تاركة وراءها غابة الإسمنت : مبان مكتظة تحجب أشعة الشمس ونور القمر وكل الأحاسيس الرقيقة ؛ ضجيج مزمن ، و رتابة خانقة .
تلك الرائحة ، أجل الرائحة نفسها تداهم خياله و هو يصغي بكل جوارحه إلى الأغنية الراقصة المنسابة من المذياع :
أريج الياسمين و الأقحوان و الشيح و النعناع و البرتقال ، روث البهائم ، احتراق الحطب المنبعث من المداخن ...
ما إن وطئت قدماه ترابها اللين حتى بكى فرحا ، البيوت الطينية التي طليت بالجير الأبيض هاجعة في وداعتها، أنين الناي يسمع من بعيد ، راع يسوق شياهه إلى الحقول الخصبة ، أزيز النحل و هو يتنقل من زهرة إلى أخرى يمتص رحيقها، نقيق الضفادع ، بساط أخضر يترامى على مد البصر ليلامس الأفق القرمزي .
اخترق الطريق المعشوشبة ، توقف عند مدخل منزلهم القديم ، تأمل الباب الخشبي الأخضر الكبير الذي رصع بمسامير سوداء ناتئة ، تتدلى في وسطه يد نحاسية ، أمسكها ، و دق ثلاث مرات ، فتح الباب ، فكانت والدته في استقباله ، رحبت بهم بحرارة .
ــ كيف تركت البيضاء ؟
ــ بيداء قاسية يا أمي ، الناس هناك يطاردون خيط دخان ، ويلهثون وراء سراب .
ــ كلا ، يا بني ، أنت تأكل في الغلة و تسب الملة ، ليس من المروءة أن نجحد النعم و ننكر الجميل ، ففي تلك المدينة الزاهرة ، شيدت حياتك.
ــ لكنني يا أمي سئمت العيش هناك ، و أحسست بالقهر .
ــ كل الذين هاجروا إليها لم يكن بمحض إرادتهم ، كانوا مضطرين ، طمعا في لقمة العيش .
ــ دعينا الآن من هذا الكلام ، جئنا لنحتفل معك بالعيد ، نريد لحما مشويا وشايا ساخنا.
ــ أهلا و سهلا بكم أحبابي ، سعادتي طافحة بوجودكم .
جلسوا على الزرابي التقليدية المبثوثة واستندوا إلى وسائد من صوف ناعم . وضع الكباب على الجمر فتصاعدت الأبخرة الساحرة . و انهمك عثمان في إعداد الشاي .
قضوا أسبوعين كاملين في البلدة الطيبة ، يتنقلون بين منازل الجيران و الأقارب ضيوفا على موائدهم المفعمة بما لذ و طاب .
عندما أزف موعد العودة إلى المدينة ، سحت العيون دموعا غزيرة ، و قفلت السيارة راجعة من حيث أتت و الوجوم يستبد براكبيها .
في مربد الإقامة السكنية ركن الأستاذ سيارته ، حملوا أمتعتهم ، و صعدوا السلالم ، فتحوا باب الشقة الكائنة بالطابق الرابع ، رائحة لا تطاق زكمت أنوفهم ، ضغطوا على أزرار الإنارة ، ظلام دامس ، لعله انقطاع التيار ، كلا ليس كذلك ، بل تم إيقاف تشغيل الكهرباء بقطع التيار عن المنزل ، عاد النور من جديد بعد تفعيله ، هرول الأب إلى الثلاجة و فتح المجمد ، فصعقته الكارثة . وضع كفيه على رأسه و بدأ يولول : ويلكم يا مجانين ، ما ذا فعلتم؟
أ لم تدركوا أنكم إذا قطعتم التيار عن الثلاجة ، ما ذا سيحصل ؟ ستتعفن محتوياتها.
وا حسرتاه ! ضاع كل شيء .. كل شيء ..
أحنوا رؤوسهم و الخزي يملأ نفوسهم المضطربة ، ثم أجابوا بصوت كورالي واحد :
" نفذنا تعليماتك حرفيا دون اعتراض و لا تفكير".
بقلم : محمد البوركي – المغرب .
تعليقات