مما كتب رعد الامارة

 قصتان قصيرتان 


1 _ قصة (الوجع الضاحك)   


أيقظني صوت شقيقي الأصغر وهو يمزحُ مع أمي،كان يدغدغها ، وكانت كركرة هذه الأخيرة وضحكاتها تكاد  تخرق طبلة أذني، كدت أصيح به، مازالَ الوقتُ مبكراً ياملعون ، لكن آثار النعاس سرعان ماطردتْ هذه الفكرة عن ذهني، إنهما يفعلان ذلك كل صباح، هي ٌتعدُّ له الفطور قبل ذهابه للعمل وهو يلقي النكات شمالاً ويميناً،ثم يختم ذلك بأن يدغدغها من خصرها، كلاهما يؤدي واجبه على أحسن مايكون، أما أنا فكان علي الأستماع لكل ذلك الهراء. تواصل أمي بعد ذلك دعواتها له، حتى وهو يكون قد قطعَ عشرات الأمتار في ذهابه، ثم أصغي لخطواتها التي تنتهي عادة عند رأسي، تُزيح الغطاء، تلقي بآخر ضحكة لها في وجهي العابسْ، قبل أن تتوجه صوبَ المطبخ لتعد لي الفطور. كنتُ في عملي، حدثَ ذلك في صبيحة يوم ربيعي، حين اتصلَ بي خالي، وهو ينشجُ مثل طفلٍ كبير، أخبرني بوفاة شقيقي الأصغر ، لم اسأله كيف مات، لكنه قال بأن الموت لم يعبث بملامح وجهه الحلو ! أتذكر بأني تَنهدتُ قبل أن ينفطر قلبي!. كنت متردداً في نقل الخبر لأمي، أخذتُ أكلّمُ نفسي :

_لستُ أنا من سينقل الخبر، أفضّلُ الموت أنا الآخر. كَلّفتُ خالي بالأمر، قلتْ له بأنها شقيقته في كل الأحوال. كانت أمي قوية، أو هي تظاهرتْ بذلك، فقد بَدتْ متماسكة وهي تأخذ رأسي في حجرها، لم نتحدثْ، لكنها مَسدّتْ شعري مطولاً، كانتْ تتنفس من أنفها وهي تفعل ذلك. مٌضتْ بضعة أيام بعد الحادث، حاولٌتْ خلالها أمي أن تصرف شقيقاتي الثلاث المتزوجات إلى بيوتهن، لكن محاولاتها باءت بالفشل، وقد أراحني تصرفهن، فكرّتْ بأن ذلك سيخفف بعض الوجع عنها. كنتُ نائماً حين تسلّلَ إلى أذني صوت ضحكة خافتة أعرفها، تبعها نشيجٌ متقطّعْ، سَخرتُ من أوهامي وحاولتِ نسيان الأمر، لكن ذات الضحكة عادتْ وبصورة أقوى هذه المرّة، ازَحتُ الغطاء بسرعة ثم تَخطيتُ الأجساد النائمة، ياإلهي! تَسمرتُ عند باب الصالة، كانت أمي بثوبها الأسود المهيبْ تجلس وبجانبها صينية الفطور التي يتصاعد البخار من أطباقها، اما أمامها فقد كان ثمة صورة كبيرة لشقيقي الأصغر، قبل أن أتقدّم صوبها، رأيتها كيف أخذتْ تدغدغ خِصرَ شقيقي بسبابتها وتضحك ، فعلت ذلك مرتين قبل أن تبكي !. (تمت)


2_ (المجنونة)


  خالتي لم تكن مجنونة، لكنها رَضيتْ بالوصف الذي أطلقه عليها جدي، ثم سرعان ماقلدّه الآخرين! كانت ترافقنا حتى باب المدرسة الأبتدائية المختلطة، تفعلُ ذلك كل صباح، أما فطورها فكانتْ تصطحبه معها، رغيفُ خبزٍ كبير تدسُّ فيه البيض المقلي،لم تكن تتحدث معنا كثيراً أثناء الطريق، ليس بسبب انشغالها بإلتهام رغيف الخبز الذي كان يسيل دهنه على ذقنها، وإنما لأنها تقول أن الكلام في الطريق عيب، أما الأكل فأمره مختلف!. خالتي لم يكن لديها في معصمها الأسمر ساعة، لكننا كنا نجدها في انتظارنا عند باب المدرسة، وقد تهيأتْ للعودة بنا في الموعد تماماً ، وكالعادة كانت تٌصطحبُ معها غدائها، رغيفُ خبزٍ كبير وقد دسّتْ فيه قطعاً من اللحم الدسم الذي كان يسيل دهنه على ذقنها!. مضت فترة طويلة قبل أن يمنعها جدي من اصطحابنا، قال لها وهو يَجذبُ شعرها الأسود الأشعث الطويل، قال لها بأنها أصَبحتْ امرأة كبيرة! وبأن ثدياها باتا يرجّان الأرض رجا!. استسلَمتْ خالتي للأمر الواقع، لكنها ظلّتْ تراقبنا من فوق السطح أثناء ذهابنا للمدرسة، كانت ترفعُ يدها وهي تلوّح بها ، أما يدها الأخرى فكانت كالعادة تحمل بها رغيف الخبز الملفوف. عادَ بنا خالي الكبير ذات يومٍ من المدرسة، لم نكمل يومنا، استغربنا الأمر، لكنه أخبرنا في الطريق بأن جدنا مريض، عند وصولنا استقبلتنا أمي وخالتي الأخرى المتزوجة، لاحظنا بأن ثمة خدوش في خدودهن، كان جدي يتوّسط الدار وقد أحنى رأسه، ما أن شاهدنا حتى بدأ ينحب، همس واحد من الأطفال :

_ جدنا مريض فعلاً. امتلأتْ الدار بعد ذلك بالأقارب والمعارف، افتقدنا خالتي، مضى وقت طويل قبل أن نستوعب موت خالتي ، الأمر ببساطة أنها أحرقتْ نفسها وهي تستحم، هكذا اخبرونا ! أجبرها جدي وهو يجذبُ شعرها ويلفّه حول ذراعه قائلاً :

_لقد مضت شهور وأنتِ لم تستحمي. هذا ماقالته أمي لي لاحقاً. (تمت)


بقلم /رعد الإمارة /العراق /بغداد


تعليقات

المشاركات الشائعة