كارمن الجزء الثالث: بقلم رعد الأمارة

 قصة (كارمن أو غرام في سوريا) الجزء الثالث 


السماء ملبدة بالغيوم، كارمن  تسبقها خطواتها صوب الكافيه، هذه المرة لم تكن قلقة بشأن أزهارها، فقد قامت بما يلزم، فعلتْ ذلك في وقت مبكر من الصباح، مع ذلك فقد هاتفتْ شقيقتها ما أن جلستْ إلى إحدى الموائد المنزوية في داخل الكافيه، قالت :

_ لقد وصلت للتو، أوه، طبعا أنا بخير، كنت مسرعة قليلاً، لذلك أنا الهث، هل لكِ بألقاء نظرة على الأزهار، نعم نعم، أعرف أنها مغطاة بصورة جيدة، حسناً، لن أتأخر حبي.  لفت انتباهها وهي تتخلص من نظارتها وتضعها جانباً، أن النادل الشاب كان يقف فوق رأسها، متى وكيف أتى؟ هي لاتدري، قالت له :

_يبدو أني أتيت مبكرة، سأجلس هنا مؤقتاً، سأكتفي بمراقبة هطول المطر من خلف الزجاج.

_نعم آنستي، هذا أفضل، قد يبللك المطر في الشرفة، لقد نقلنا كل اصص الأزهار للداخل، انظري.  حولت كارمن بصرها صوب المائدة الكبيرة في الزاوية والتي صفّتْ عليها اصص الأزهار، كان منظرها بديعاً، حتى أنها فكّرتْ بألتقاط صورة، كادت تفعل ذلك، لولا أن الباب الزجاجي فتح فجأة في هذه اللحظة، اصطدمت عيني كارميلا بعيني الرجل الذي كان يقف هناك، لم يدم الأمر سوى بضعة ثوان، لكن قطعة الشهد هذه احمرَّ وجهها، دون أن تعرف السبب!. اختار الرجل ذو المعطف الرصاصي والذي بدا غريباً وغامضاً في عيني كارميلا، اختار مائدة تلاصق البوابة الزجاجية الكبيرة للكافيه، كان صوته خافتاً لذا لم تسمع بماذا همسَ للنادل الشاب، الذي لدهشتها ضحك ثم تراجع خطوة قبل أن يستدير عائداً لها، تنحنح النادل قبل أن يصطبغ وجهه بحمرة قانية، كارمن كانت تحدّق مباشرة في عينيه، مافعلته قطعة الشهد هذه أربك الولد، أربكه تماماً، حتى أن جبينه تعرق! قالت كارميلا :

_ قهوتي المعتادة لو سمحت. اومأ النادل برأسه، فعل ذلك أكثر من مرة ، كما لو أنه تحوّلَ فجأة إلى روبوت آلي، كارمن وهي تراقب ذلك ضَحكتْ بكل شفافية، والرجل الغريب أبتسم، أما في الخارج فقد قهقَهتْ حبات المطر وهي تضرب الزجاج مرة بعد مرة. كارمن خيم على ملامحها التوتر، شعرتْ كما لو أن عيني الرجل الغريب تشاركانها المقعد أمامها، حتى أنها وهي ترتشف من فنجان قهوتها، اشاحت بنظرها بعيداً، صوب اصص الأزهار الصامتة، هذه المرة سمعته يقول للنادل بصوت ذو نبرة آسرة :

_ قهوتكم رائعة، هل لكَ بأن تنقل اعجابي لمن قام بأعدادها؟.  راقبتْ كارمن كل ذلك، لكن بطرف عينيها طبعاً، هدأتْ أنفاسها رويداً رويداً، أخرج الرجل من جيب معطفه الواسع كراساً صغيراً، كان بوسعها أن تلاحظ ذلك، القى نظرة حوله، ثم توقفتْ عينيه عند كارمن، لم يرمش، ظلَّ بصره ثابتاً عندها،  حينها أرسلتْ كارمن بريقاً عجيباً من عينيها وهي تحدّق فيه، وكأنها في سبيلها لتنويم الرجل مغناطيسياً، مافعله أدهشها، كتمَ ضحكته الخفيفة بظاهر كفه، حاولت أن تبتسم بدورها ، لكنها عوضاً عن ذلك ضيّقتْ مابين حاجبيها وتأففتْ بصوتٍ مسموع! شعرت كما لو أنها اُهينتْ بطريقة ما،تتبّعَتْ حركة أصابع الرجل وهو يشير للنادل الواقف غير بعيد عنهما، أعطاها الأخير ظهره وأخذ يصغي لهمس الرجل، سرعان مانهض الأخير، نظر من فوق كتف النادل نحو مائدة كارمن ثم أدركت أنه قادم نحوها، كانت خطواته ثابتة وهو يفعل ذلك. أمسك بحافة المقعد أمامها، كان بوسعها رؤية معطفه ذو الأزرار السوداء، سمعته يتنحنح بصوت خافت لكنها لم ترفع بصرها، كان نظرها قد تحول إلى أصابعه القابضة على حافة المقعد، لم يحمر وجهها ولا تسارعت نبضات قلبها، وهذا الأمر أدهشها، لكن ما أثار دهشتها أكثر، أنها لم تظهر استياءً حين جرَّ الرجل المقعد وجلس عليه ، كما أنها لم ترحب به، كل مافعلته أنها أشاحت بوجهها وشرَعتْ في تأمل الأزهار ثم تنهدت. غرَقتْ كارمن في دهشة جديدة، حتى أنها هَمستْ لنفسها، هذه فعلاً وقاحة، راحت تلاحق بعينيها أصابع النادل، وهو يضع بحرصٍ شديد فنجان القهوة أمام الرجل ذو المعطف، قال الرجل ويبدو أنه قد قرر أخيراً أن يضع حدا للصمت :

_ آنستي، أنا مدين لكِ بأعتذار كبير، قد تكون ضحكتي البريئة قد سببت أزعاجاً لك.  لاتعرف كارمن لماذا أحتقن وجهها، ولا كيف أندفعتْ عبارتها الخالية من أي معني:

_وما ادراك أني آنسة؟.  لم يندهش الرجل، لكن نظرة عينيه اتسعتْ، ياإلهي، هكذا تمتمتْ كارميلا في أعماقها، خيل إليها أن كل الألوان كانت تتوهج في عينيه، قال وهو يشيح برأسه  :

_ مجرد حدس، لا أثر لخاتم.  رسمتْ كارميلا ظل أبتسامة على شفتيها، كادت تتكلم لكن الرجل أدهشها بقوله :

_أنتِ آنسة، وإلا كيف يسمح زوجك لنفسه أن يكون بعيداً عن مثل هاتين العينين!. احمرَّ وجه كارمن رغماً عنها، رفعت يدها وتخلّلتْ شعرها أصابعها، كادت تقول، وماذا عن عينيك اللعينتين!.  قالت فجأة وهي تصمد أمام نظراته :

_ماذا قلت للنادل حتى يضحك هكذا ! هل لي أن أعرف؟.

_ أوه، هل لاحظتِ ذلك! حسناً، مارأيك بأن تحزري؟.

_ماذا تعني؟.

_لاشيء، أختبار بسيط.  كبرتْ أبتسامته ، كارمن وهي تذوب في أعماق عينيه، لم ترتعش اجفانها هذه المرة، لكن راق لها تحدّيه، قالت :

_أظن همسكما كان يدور عني، صح؟.  أذهلتها حركة يديه حين صفّق بخفة مثل طفل، هذه المرة تضرج وجهها احمراراً  أكثر عن ذي قبل، لكنها شاركته ضحكته، كفَّ عن الضحك فجأة، أحنى رأسه للأسفل ، راح يطرق حافة الطاولة بأصابعه، سمحت كارميلا لنفسها بأن تتأمل الشيب الذي وخط شعره الأسود ، قالت فجأة :

_لم تخبرني من أنت! أنا لم أرك سابقاً. رفع رأسه بغتة، ضيق مابين حاجبيه لكنه ضحك بقوة هذه المرة :

_تصوري، حتى أنا لم أرك سابقاً، قلت للنادل من هذه الساحرة ذات الثوب الأزرق.  قاطعته كارمن بسرعة، لوّحتْ بأصبعها السبابة :

_ الآن فهمت، وصفتني بالساحرة اذاً، من أجل هذا تركت النادل يضحك مني، سأوبخه.  ألقت كارمن كلمتها الأخيرة ثم أخذت تتنفس من أنفها، لاحظتْ بطرف عينها كيف أسند ذقنه إلى راحة يده، كان يتأملها كما لو أنه يعرفها منذ سنين خلت، قالت وقد غيّرتْ رأيها :

_ حسنا، سأعفو عنه ، هذه المرة فقط. (للحديث بقية) 


بقلم /رعد الإمارة /العراق /بغداد


تعليقات

المشاركات الشائعة