باب العدالة: بقلم رافع الفرطوسي

 قصة قصيرة

                                             ( باب العدالة )


لم يكن يطمح يوماً أن يصبح رئيس دولة أو وزيرا  بها , لم يكن يفكر ان يصبح شخصية نافذة في محيطه ,وبالأحرى لم يسعى لذلك ولم يكن يحلم الا بأن يعُامل كانسان , ف(فغزارة ) انسانيته الكامنة في شخصه لا تعني انه مكتمل الانسانية !

هكذا يرى وكذا يردد في نفسه دائما, الانسانية بلا حرية تكون يتيمة, وبلا عدالة تكون منقوصة وبلا سلام تكون دخولا سافرا في عالم الغاب.

هاجر كثيراً (في رأسه) وجاب كل بقاع الدنيا دون ان ينهض من الكرسي الذي شاركه كل شيء. 

وفي صباحٍ تلقى به عشرات الرسائل بمحتوى (جمعة مباركة) , استبشر خيرا بالناس  و قرر ان يخوض المواجهة المصيرية .

لم يكن يحمل معه حقيبة في رحلته تلك , حيث تصور انها رحلة ذهاب فقط وان ما خلف الابواب والجدران كفيل بان يغنيه عن اشياء ربما سيرهقه حملها. 

وصل أخيرا الى جدران قصر العدالة الذي يشرف على وادٍ هو الأعمق و الأخطر في المجرة , كان الباب  خبيثا لدرجة ان الايدي لا تتمكن من الوصول اليه , رفع رأسه الى أعلى وأعلى ثم أعلى فاذا بالشباك ينفرج ؛ والُقيت اليه تعليمات المواجهة , لا تشتكي , لا تتذمر , لا تعاتب ، لا تندب  , لا ... لا ... لا 

وضع الورقة بعد قراءتها في جيبه و ردد بصوت أرسله عنوة الى الشباك :


نعاتب العدالة ! نفتح للصدق شبابيكاً رغم ان الابواب لم تسعنا , عانقنا المنائر وصلينا بكل الاضرحة ولم نترك محراباً  الا وزرعنا فيه الصلوات, ثم كان الانتظار.. ان تفتح العدالة بابها , ليس في نهاية ولا في الأفق .. حتى سرداب !


أرتفع الضجيج من خلف الجدران ,  أصوات كالرعد ووميض مرعب واشارات غير مفهومة وما كان هذا ليخيفه قط , فربما تلك اجابات عن اسئلته المشروعة وسيعكف على تفسيرها لاحقا!

وما ان استقرت تلك الفكرة في رأسه حتى جاء الصوت الذي يفندها :


يا ... أنتَ


يا أنتَ غادرت كل الدروب التي أضعت نفسك فيها و اتجهت نحو متاهاتٍ أكبر, ظناً منك بان تجد الملاذ, يا أنتَ تجول في شوارع النسيان تبحث عن السكينة  فتصدمك الذكريات. 

يا أنتَ توزع الأفكار والحلول والنصائح والإجابات و تستجدي الأسئلة !


فعلام تبحث ؟ ولم تبحث عن اشياءك واشياء غيرك  ولا تبحث عنك ؟


يا ايها المغرور , الم يحن الوقت لتستعين بأحد ما ؟استنجد , اطلب  , توسل , ابتهل , ادعو , ناشد ...


أغمض عينيه ووضع يديه على اذنيه وصرخ بأعلى صوته :


أأطلب المساعدة ؟ فماذا تسمي نداءاتي على مر العصور ؟ واولئك الذين زرعتهم في طريقي بين معلم وواعظ و أمرتني أن افوض لهم كل أموري .. اولئك ماذا ادعوهم؟


تبعنا فلانا وفلان .. نسير كالعمي خلف رواياتهم , يقال ان ذلك بسبب طيبتنا المفرطة فنحن لم نؤمن بشيء أكثر من ايماننا بأننا مخلوقات من طينِ ! وسؤالي : فما الروح؟ أتكونت من الطين هي الأخرى؟


خيم السكون على المكان فجأة حتى شعر بأن كل شيء  يحتقره حتى الابواب والشبابيك , هرع نحو الباب صارخا :


طرقنا بكف من أمل باب العدالة , ترغمنا الغصات أن نفعل... طرقنا الباب وقبل ان تمتد اليد مرة اخرى عاد الصوت : تعال وجرب غدا !


(أنا .. يا من تقطن خلف جدران العزلة  , حر أكثر منك ولكني لا املك هذا القدر من الابواب والمفاتيح , أذلني قدري حتى اوصلني الي بابك الذي لا يفتح .. واذلني حتى صرت اقبل بالحديث من خلال الشبابيك !)


تلك الكلمات كانت اشد وطأة واكثر استفزازا وكانت كفيلة بأن يعود الصوت حاملا صراحة غير معهودة :

فأحذر, وتذكر ان يدك من زجاج ستطرق باب الحجر.. اطرق برفق أو بلا صوت! سيكون صوتك عدما ضاع في فضاء العدم , وسيغدو جوعك سبباً لمصرعك , او اطرق كما تشاء وكيفما تريد , ستموت مرارا عطشاً رغم انك ستخلد في ذاكرة الينابيع , وماذا بعد ؟ ماذا بعدك انت؟ أتظن ان رحيلك سيعلن القيامة أم ان طوفان آخر يقبل فيغرق كل الاشياء؟ اطرق كما تشاء فأنت الخاسر الوحيد.


كانت تلك اجابة موفقة, لم تكن بمستوى الطموح ولكنها على الاقل  مقنعة وكافية ليدرك حقيقة كل ما جرى ويجري.

كانت آخر الصدمات و آخر الصرخات ومعها بدأ كل شيء بالعودة الى مكانه الطبيعي , كل شيء سواه حيث لم يكن له مكان أصلا !

كم نحن مساكين و كم ( نحن مغرمون.. بل نحن محرومون ) ؟ سنعيش قليلا نبحث عن كل الاشياء ونموت طويلا ولا يبحث شيء عنا !

بدأ الصوت يتلاشى كخيط دخان تسرب من عود للبخور عائدا ادراجه من خلال الشباك :

عاد الصوت , فنام .. لا بل مات الصوت والباب وحامل الجنازات وحتى التابوت ! فأي مساكين نحن اذ نعيش قليلا جدا ونموت كثيرا !


ترك ظله على عتبة الباب الذي لن يفتح وغادر بضمير جريح وانسانية تحتضر, صوب قبره الذي لن يبحث عنه احد بعده !


رافع الفرطوسي

البصـرة


تعليقات

المشاركات الشائعة