كارمن الجزء الثاني: بقلم رعد الإمارة

 قصة (كارمن أو غرام في سوريا) الجزء الثاني 


في البداية نبّهتْ الشمس كارمن بلطف، دَغدغتْ بأشعتها وجهها، لكن هذه الأخيرة تململت، وتمنت وهي بالكاد تفتح عينيها النرجسيتين، تمنت لو تطول ذراعها لبرهة، ريثما تسدل ستائر نافذتها فحسب ، وكأنما شعرت أشعة الشمس بما يجول في ذهنها فأخذت تلسع عينيها مرة ومرتين . أدهش كارمن وهي تصبغ شفتيها أمام المرآة بأن شقيقتها الكبرى لم توقظها كالعادة بصياحها المتكرر، كارمن، كارميلا المجنونة!. كارمن راق لها منظرها الفاتن أخيراً والا لما دارت حول نفسها هكذا مثل راقصة الباليه ، ثم وهي تغلق باب غرفتها لم تنسَ أن ترسل بقبلة طائرة لشكلها الظاهر في المرآة. الدار غارقة في السكون، وكارمن تساءلت عن السبب ، حتى أنها عقدت مابين حاجييها وهي تهمس بذلك! لم تكلف نفسها عناء التفتيش في الغرف، اكتفت بهزة واحدة من كتفيها العريضين ثم توجهت صوب المطبخ، بخطوات تنبئ عن جوع شديد.

_كارميلا!. أخرجها الصوت الانثوي الذي تعرفه من شرودها، وجدتْ شقيقتها تحيط رأسها بود كبير:

_ أوه، كم أني آسفة ياحبي، ذهبتُ للتبضع، تعرفين المطر، فكرت بأنه ربما يقيد خطواتنا، قالت كارمن وهي تلقي نظرة على كيس البقالة الضخم :

_أنتِ تعرفين أني لا أحب تناول فطور الصباح إلا من يديك، لاعليكِ بطني مازال صامداً، هيا دعيني أساعدك.

_ دقائق ويكون فطور الأميرة جاهزاً، آه ياكارميلا، منظر أزهارك بهيج وقد أدخل السرور إلى نفسي، ليتك رأيت ذلك.

_ أوه، أزهاري، سأطمئن عليها قبل ذهابي للكافيه، مضت فترة طويلة منذ آخر مرة ذهبت فيها إلى هناك.

_ طبعا حبيبتي، الطقس في الخارج يشجع على النزهة، لكن علينا أن نطعم فمك الحلو هذا أولاً . وهي تغلق الباب الخارجي خلفها، حدقت كارمن يمنة ويسرة قبل أن تضع نظارتها السوداء بكل رشاقة، كان النسيم العابر قد هيأ نفسه هو الآخر ليعبث بشعرها المصفف بعناية، سارت للأمام صوب الكافيه التي لاتبعد عن دارها سوى بضعة عشرات من الأمتار فقط، لكنها وهي تترنم مع نفسها في الشارع العريض المغسول بماء المطر لم تنسَ أن تلوّن وجهها بملامح رصينة، فكارمن وهي تدفع بصدرها للأمام تحولت إلى امرأة أخرى. أنفرجتْ أسارير النادل وهو يحدق إليها من خلف الباب الزجاجي الكبير، كان سهل عليه تذكرها، فهذه الملامح العذبة للأنثى الصاعدة درجات السلم الرخامية قلما ينساها المرء ، أفرد يده اليمنى أمامها وانحنى قليلاً قبل أن يقودها إلى مكانها الأثير، ثلاث موائد متباعدة كُلٍ في زاوية، وقد صفت فوقها بعناية باقات الزهور التي خيّم على أوراقها الأسى، أشعة الشمس لاترحم، هكذا فكرت كارمن قبل أن تختار مقعداً في ظل أغصان شجرة السرو الكبيرة، سألتْ كارمن النادل بلطف عن سبب وضع الزهور هذا، قالت وقد تلون صوتها بطبقة حزينة :

_ستموت الأزهار هكذا، لكن لو وضعتها في الظل، أنظر، لن تصمد حتى المساء. انحنى النادل الشاب حتى كاد يمس برأسه الغطاء المستدير للطاولة ، قال :

_ أنها تعليمات صاحب الكافيه، آسف من أجل ذلك. حدقت كارمن في ملامح الشاب المحمر الوجه من خلف نظارتها، طرقت برفق حافة الطاولة، قالت وهي ترفع نظارتها بغتة إلى منتصف شعرها :

_ وأين صاحب المكان هذا؟ هل هو موجود هنا. ابتلع النادل ريقه وهو يحدق في عينيها، قال :

_ لا سيدتي، في العادة يأتي بعد الظهيرة، لكن وكيله الذي يقوم بأعداد الأراكيل موجود.

_ طيب، أظن بأني سأتناول كوبا كبيراً من قهوتكم، هل هو من يعدها، أعني القهوة؟.

_نعم نعم، فعلاً هو من يقوم بذلك.

_جرّب اذاً ياعزيزي أن تشكره بالنيابة عني، قل له ثمة أمرأة تريد أن تفعل ذلك.

_ حالاً سيدتي.

_واضح أنك نسيت وماعدت تتذكر ، أنا آنسة. أخفت كارمن  ضحكتها بيدها، راحت تلاحق خطوات النادل وهو يتراجع للخلف بأرتباك واضح. راق لكارمن منظر الكهل القادم نحوها، كانت أبتسامته العريضة تسبق خطواته، حياها بلطف مع انحناءة خفيفة، اعتدلتْ كارمن في جلستها وتضرّج وجهها بحمرة خفيفة، قالت مع نفسها، واضح أن هذا الكهل يعرف كيف يتعامل مع النساء، التفت صوب النادل الملاصق له، مد يده المعروقة وأمسك بكأس الماء ثم الحقه بكوب القهوة الساخن، فعل ذلك برقة، همست كارمن :

_شكرا لك، أحب القهوة التي تقوم بأعدادها، مضت فترة قبل آخر مرة حضرت فيها إلى هنا، لكن مذاق قهوتك لم يفارق خيالي. هذه المرة كشفت أبتسامة الكهل وهو يومئ برأسه عن أسنان بيضاء منتظمة، همس بصوت خافت :

_على الرحب والسعة آنستي، أخبرني زميلي حول موضوع الزهور. قال هذا ثم حوّل بصره صوب الموائد الأخرى، قالت كارمن بصوت غلب عليه التأثر :

_ أنظر، أنا أجلس في الظل، قد يستغرق بقائي ساعة أو ربما ساعتين، لكن هذه الأزهار المسكينة ستذبل، أن ظلت هكذا تحت رحمة أشعة الشمس.

_ آه، فهمت، باستثناء هذه الباقة التي على مائدتك، فأني وزميلي سنقوم بوضع الباقات الأخرى في مكان ظليل، هل من خدمة أخرى آنستي؟.

_نعم لو سمحت، تقبل امتناني اولاً، ثم مارأيكْ بأركيلة؟لتكن حسب ذوقك!.(يتبع) 


بقلم /رعد الإمارة /العراق /بغداد


تعليقات

المشاركات الشائعة