الماضي لا يجف سريعا


 قصة  (الماضي لايجف سريعا) 


 أخيرا انقضتْ ساعات النهار الطويلة المملة وحل المساء، لكن أبي لم يعد بعد من رحلة صيد السمك اليومية! كانت عمتي العانس بشعرها الأشيب وفمها المزموم تطيل الهمس مع أمي ذات النظرات القلقة،وكنت وشقيقتي الأصغر مني نتبادل الأدوار في مداعبة أخانا الرضيع، مع ذلك فأبي الحبيب لم يعد بعد. شعرت بجوع شديد وشقيقتي لاحظت ذلك، لم نستطع قول هذا للمرأتين، غياب أبي ضاعف من قلقهما وعصبيتهما حتى بدتا كذئبتين مجروحتين! قالت عمتي وهي ترتطم بأمي عند باب الغرفة :

-لم يفعلها من قبل، أخي المسكين، لطالما حذرته من غدر هذا النهر الكريه الذي يعج بالأفاعي. لم تنبس أمي بأي حرف، فقط راحت ترمش بعينيها الدامعتين، عادت عمتي تقول لكن بعصبية واضحة :

-يالبرودك العجيب هذا، زوجك خرج منذ الفجر وها قد حل المساء، وأنتِ لاشيء تفعلينه سوى التحديق بي. قالت هذا وابعدتْ أمي عن طريقها، ثم مضت خارج الدار مثل عاصفة . كانت أمي هي من فتح الباب حين عادت عمتي، لكنها لم تكن لوحدها، فخلفها كان ثمة ثلة من الرجال يحملون أبي الميت تماما! لم تصرخ أمي، لا أتذكر أنها فعلت ذلك، هي وقعت مغشيا عليها فحسب ،تلقتها أحضان عمتي التي أخذت تصرخ كما لم تفعل ذلك من قبل. مضت شهور عديدة منذ أن مات أبي، مازلت أذكر كيف ابعدونا، لم يسمحوا لنا بالنظر إليه حين مددوه في باحة البيت، لكننا فعلنا ذلك خلسة أنا وشقيقتي، كنا نرجف بشدة رغم حر الصيف ورغم التصاقنا،كانت شقيقتي تنشج وهي تشير صوب جثة أبي شبه العارية إلا من سروال ،كان نظري قد تعلق بهذا السروال، والذي كان يقطر منه الماء،  لاحقا ادركنا أنا وشقيقتي  رغم أعمارنا الصغيرة التي لم تتجاوز الحادية عشرة بأن أبانا مات بنوبة قلبية، وجدوا نصف جسده مغمورا في المياه أما أصابعه تلك التي كان يداعب رأسينا بها، فقد انغرزت بحافة النهر. رحل أبي أخيراً، وعمتي ذات الوجه الشبيه بحد السكين أخذتْ تكثر من الحديث مع أمي والأنفراد بها، كانتا تفعلان ذلك بعيدا عن مدى أسماعنا، ثم حل التغيير سريعا، وقد شمل أمي بالدرجة الأساس!لم تكن أمي من النوع الجريء، كانت تفتقد لكثير من الاعيب النساء، أما عمتي فقد كانت ماهرة في ملاعبة حاجبيها واستخدام أصابعها بصورة قذرة عند الإشارة لأمر يخص النساء ، كانت أمي حينها تكتفي بالأبتسام وتخفض من بصرها! بمرور الأيام والأسابيع اخذت أجواء بيتنا الكئيب  تفوح بروائح عطرة،أخذت المرأتين تتسابقان في ارتداء الألوان،وطوال هذه الفترة الحرجة التي خلفها فقدان أبانا، لم نحظى بأي لفتة حنان لا من أمي ولا من عمتي، لقد اكتفتا بمداعبة شقيقنا الرضيع الذي كان له الحصة الأكبر من ما يطلقون عليه الحنان هذا .  التطور العجيب في نظرنا كأطفال حدث لاحقا، بابنا المغلق راح يطرقه رجل! كانت عمتي هي من تهب مسرعة لتفتح له!كان يجلس في صالة الاستقبال ، مرتبكا ومحرجا يحدق فينا من بعيد ويحاول قدر الإمكان منحنا أبتسامة، كانت عمتي  ثرثارة تتحدث كثيرا، أما هو فيظل صامتا أغلب الوقت، يضع يديه في حجره، وهذا الأمر كان يضحكنا أنا وشقيقتي،رغم ذلك فقد لاحظنا من خلال فرجة الباب المؤدي لصالة الإستقبال ، لاحظنا أن أمنا هي الأخرى تضع يديها في حجرها، لكن ذلك لم يكن مضحكا لنا بأي حال! ثم ادركنا أن عمتي كانت تخطط لزواج أمي. كنت أداعب شقيقي الصغير حين تناهى لي صوت صراخ رفيع ، كانت تلك شقيقتي، هرعتُ مسرعا وقد توقعت بأن ثمة خطبا ما قد أصابها،وجدت عمتي تحيط بكتفي شقيقتي وهي تهزها هزا عنيفا، جذبت أختي صوبي ووقفت لصق عمتي وأنا أرتجف! كان وجهها قد أصبح قرمزيا وهي تحدق في وجهي، كان كلانا يرتعد، توقعتُ للحظة أن ترتفع كفها لتصفعني، لكنها وهي تديم النظر في عيوني المشتعلة غضبا انطفأ شيء في ملامحها الكريهة ، وخيل لي أن ثمة مايشبه الخوف قد راح يعتريها، ارتدّتْ للخلف ومالبثت أن ازاحت أختي جانبا وهزت كتفيها ودخلت، كانت شقيقتي تمسك بعض ثياب أبي بيديها ،فيما تبعثر البعض الآخر أرضا، جثوت على ركبتي وفعلتْ أختي مثلي، أمتدّتْ أصابعنا المرتعشة معا نحو سروال أبي الطويل، رحنا نحدق ببعضنا البعض لوهلة ،رفعنا السروال وأخذنا نمسح عليه برفق، العجيب أنه لم يكن جافا،كان مبللاً كما في أول مرة . (تمت)


بقلم /رعد الإمارة /العراق /بغداد

تعليقات

المشاركات الشائعة