بدلة حسن: بقلم سيد جعيتم

 بدلة حسن 

جذب انتباه الصبية صوت نفير سيارتي الفارهة . 

قذفت إليهم بعض البنبون والعملات المعدنية رؤيتهم ينحنون لالتقاط ما ألقيته اسعدني، عكر سعادتي أحدهم لم ينحنِ ليلتقط نصيبه، انصرف دون أن ينظر تجاهي. 

ملأني الغيظ وكأن هذا العفريت الصغير ضغط علي صدري ومنع عني الهواء، تمنيت لو عاد فأجذل له العطاء وأرى الشكر في عينيه. 

تسللت لأنفي روائح مختلفة يغلب عليها رائحة إعداد الطعام، كنت أغالب جوعي كلما شممتها في الماضي فمثلي لم يكن له الحق بأن يجهر بالجوع.

عرفني بعض الكبار فقد قضيت بينهم سنين، أسرفوا في الترحيب بي، أبعدوا الأطفال عن السيارة. سألت وانا أتصنع النسيان  :

 ـ أمال بيت الحاج محمد فين؟.      

ـ أنت نسيت البيت يا دكتور، آخر بيت في الزقاق.  

  ركنت السيارة أسفل المنزل . يا تري ما شكله الآن؟.

 اذكره وهو يودعني لسيارة الأجرة التي أحضرها لتقلني للمطار، انكببت على يده اقبلها، سحبها، قبلني من رأسي وقال:       

ـ أنت ابني وأمك أختي وأبوك ابن عمي . 

طول رحلتي في الغربة التي طالت وأنا أتلمس أخبارهم، لا يمر يوما إلا وأطيافهم تسيطر على عقلي. 


هُدمت من صغري، عانيت من الحرمان العاطفي، كان الوقت التي تمنحني امي إياه قليل بسبب مرضها، وأبي كان متعب دائماً ومرهق من العمل أجير  في ارض الغير، كم عوقبت من مدرس الفصل لشرودي الدائم، كدت افصل من المدرسة أكثر من مرة لكثرة شجاري مع

 الأطفال الآخرين،  وكنت اجد متعة في إثارة مشاعر الغضب لدي المدرسين، و عقاب أبي لي دائما قاسيا فيعزلني في إحدى حجرات المنزل دون أن يهتم لما أعانيه من خوف وفزع وإذا بكيت يؤنبني فلا يصح البكاء للرجال مع أني ما زلت صبيًا

منذ وفاة أمي التي لحقت بأبي، انتقلت للعيش ببيت خالي، كنت أقف دائما خلف حسن ونحن نأخذ  مصروف يدنا من خالي، كنت أطاطأ رأسي خجلا وانا اطلب  مصاريف الدراسة، فكان يحتضنني ويقبل راسي، كم تمنيت أن يعنفني عندما أخطأ كما يعنف حسن؛ لكنه لم يعنفني ابدًا، يسيطر علي الشعور بالدونيه رغم أنه لم يصدر من أحد أي تصرف يؤلمني لكنني ضيف و لست بصاحب بيت، كنت ادخر دموعي لبعد صعودي لحجرتي،  أبكي  احيانا من الخوف وكثيرا من يتمي واشتياقي لحضن امي ولقسوة أبي، كنت ارتعب من كوابيسي قاتلوا في ملابسي وانا نائم فأقوم مذعورًا لأبدل ملابسي وأغسلها وكم لبستها مبتلة لعدم وجود غيار بديل بالحجرة، أه من قسوة الدنيا.


حسن اكبر مني حجمًا وكم انتظرت هداياه من ملابسه التي تعيد زوجة خالي  حياكتها لتناسبني، كم تمنيت أن يكون لي مطلبًا خاصًا.

أنكفأت على ذاتي فلابد من أن التفوق، دخلت كلية الطب وكان حسن ق دي سبقني ودخل كلية التجارة، شعرت ببعض التعويض.

عشش حوارٌ في الغربة داخل رأسي، تمنيت أن أرى الانكسار في عيونهم؛ رغم أني لا اكرههم، تخيلتهم ينحنون أمامي بعد أن يعلموا ما وصلت إليه وأن بخجلون  عندما تتلاقى أعينهم بعيني.


 مددت قدمي ووضعتها علي الأرض، أستعرض حذائي الفاخر اللامع ماركة بيرلوتي المصنوع يدوياً في فرنسا، لفت بريق الحذاء نظرهم، سعدت، وقفت منتصبا في شموخ أمام المنزل القديم الذي شهد سنوات ضعفي وفقري، نظرت لأعلى لسطح المسكن حيث قضيت خمسة عشر عام من عمري في حجرة وحيدة به، تمنيت لو بيدي مفتاحًا افتح به مثلما كان يفعل حسن،  الطرق على الباب وانتظار الإذن لي بالدخول يشعرني بالغربة.  

 نفس العفريت الصغير يطل من سطوح المنزل يسقي أصيصًا للزرع،  سقطت قطرات من الماء على السيارة، سارع أحد الرجال بزجره بصوت عال  ثم قال:

ـ ابن حسن مجننا بشقاوته.

رحب خالي بي فهو كعادته كريم مع الجميع وما زال يعتبرني ابنه، لم يسألني عن سبب انقطاعي عن السؤال عنهم من يوم سفري وكأنه كان يتوقع ذلك. 

 فوق مائدة الطعام وضعت زوجة خالي أمامي فوطة وشوكة وسكين، شعرت بتميزي، رحت أستعرض بدلتي الأنيقة أمام حسن وأتعمد مسك رابطة العنق وكأنني أُعدل وضعها، أصابني الضيق فلم أفلح في لفت نظرهم

قال خالى:        

 ـ علِمنا أنك تزوجت في الغربة من زوجة غنية.

ـ كانت مديرة للمستشفي الذي عملت به،  انا الان صاحب المستشفي وقد أكملت دراستي وحصلت على الدكتوراه .

 أكيد بيتنا المتواضع لن يليق بها، في أي وقت نرحب بكما فالبيت بيتك، ولو أن مشاهدتنا بتفكرك بأيام لا تريد أن تتذكرها.      

- يا لهذا الرجل القوي المعتز بنفسه، أخترق عقلي وحلل ما يدور بخلدي بكلمات بسيطة، تقوقعت على نفسي، خجلت؛ وسرعان ما تماسكت ونظرت بثبات في عينه فقد تفوق شعوري بالتعالي على إحساسي بالخجل.

 أشرت للعفريت الصغير بمفتاح السيارة:       

ـ تعرف تفتح السيارة    . 

ـ نعم.    

- في الشنطة بعض الهدايا لكم وبدلة جديدة تليق بوالدك. أشار خالي لحفيده، فلم يمد يده، قال خالى:  

 ـ زوجة خالك جهزت لك من الطعام ما كنت تحبه وسيضعه ابن حسن في العربة.

عدت من الزيارة وكأنني لم اسافر  وأعتلي المناصب.

 وصلت بيتي وأنا أتخيل حسن يرتدي البدلة الجديدة ويتباهى، والعفريت الصغير المتعالي، يستعرض الهدايا أمام الصبية.

 أمرت الخادمة الأجنبية بأن تحضر لي ما بداخل حقيبة السيارة. 

أحضرت الطعام الذي جهزته لي زوجة خالي، وبدلة حسن والهدايا.

 

تمت بقلم: سيد جعيتم 

جمهورية مصر العربية


تعليقات

المشاركات الشائعة